الوحدة النقدية ليست ترفا سياسيا ولا تقليدا مجردا للغرب، بل هي استراتيجية بعيدة النظر تحمل في طياتها منافع ومصالح سياسية واقتصادية عظيمة بعظم المخاطر والتضحيات المتحقق والمحتمل وقوعها. وارتفاع الثمن مقابل ارتفاع المُثمن هي سنة الله التي خلق الله الدنيا عليها، فمن خطب الحسناء لم يغلها المهر.
إن ميلاد دينار خليجي موحد لهو ميلاد لأول استقلالية سياسية اقتصادية في العالم العربي والإسلامي على حد سواء. إن وأد هذا الحلم من عاجز كسول أو متشائم خذول بتهويل المخاطر وتهوين المصالح لا يصدر من أهل العزم والعزائم والنظرة الثاقبة والبعيدة الأمد.
عندما ارتضت أمريكا أن تتحمل عبء الاقتصادات المنهكة لأوروبا والحلفاء بعد الحرب العالمية بقبولها معاهدة برتن وود 1944 وتقديمها الدولار ليكون عملة الاحتياط المغطاة بالذهب لم يكن ذلك خاليا من المخاطرة المتمثلة بانتقال هذه الاقتصادات المتهالكة من أوروبا إلى أمريكا لتهلك اقتصادها ـ ولم تكن هذه الخطوة الجريئة خالية من التضحيات، فقد ضحت أمريكا بثلاثة أرباع احتياطياتها من الذهب، وهي التي كانت تملك أعظم احتياطيات ذهبية في العالم. إن نظرة قادة أمريكا الاستراتيجية والبعيدة المدى علمت أن العز والسؤدد لا يتأتى بالتمني، بل هي تضحيات ومخاطر، فأبعدوا المتشائمين والمتخاذلين وقدموا المبتكرين المتفائلين، ومن خلال الدولار، ملكوا العالم اقتصاديا، ما سهل عليهم قيادته سياسيا. وعلمت أوروبا أن المصلحة الاستراتيجية تتحقق من خلال التجمع في نظام مالي موحد وأن يكون أعظمهم تضحية أكثرهم فوزا بالغنيمة، فتنادوا بوحدة نقدية تدعم وحدتهم الاقتصادية والسياسية لتكتمل لهم الوحدة, فلعلهم بذلك يعيدون مجدا تليدا أضاعوه. ولم يخف على ألمانيا مقدار التضحية الاقتصادية والمالية التي ستقدمها وهي تنضم إلى دول شرق أوروبا الهالكة. ولم يغب عن نظر فرنسا مجدها التاريخي ومستعمراتها الآفلة وهي تتنازل عن عملتها وعن بنكها المركزي ليستقر في قلب ألمانيا عدوها الذي أجرى دماء الفرنسيين أنهارا في الأمس القريب.
من رحم الحروب والثأرات والتناحرات ظهرت دعوات الوحدة والاتحاد في أوروبا والدماء التي كانت بينهم لم تزل دافئة، فما بالنا نحن نخذل بعضنا بعضا باستحالة وحدة الخليج. ما بال بعضنا ممن ضل عنه التسديد والتوفيق يجادل عن جهل وقصر نظر وعدم دراية بعدم جدوى الوحدة النقدية. ألا يعلم هذا المتشائم المُخذل أن في الوحدة النقدية لدول الخليج النفطية منجما للذهب يسيل من غير حفر ولا نقب؟ نحن الذين نملك البترول فوق ظاهر الأرض وفي باطنها، ونتحكم بشريان الدم الأعظم لهذه الحضارة المدنية الحديثة، فلم نعط الدنية فيه ونقدمه غطاء نقديا للدولار. ألا يعلم هذا وذاك أن ظهور البترول عام 1973 كأعظم سلعة استراتيجية عرفها العالم القديم والحديث هو من أهم الأسباب التي أعطت الفرصة للولايات المتحدة أن تدعم بقاء الدولار عملة الاحتياط العالمية بعد إلغائها الذهب، ومن أراد أن تذهب شكوكه فليرجع إلى كتاب "اليد الخفية للهيمنة الأمريكية" للبروفيسور ديفيد سبيرو، الذي مولته أعظم الجامعات والمؤسسات الأمريكية وطبعته جامعة كورونيل العريقة واختصرته مجلة جامعة هارفارد للأعمال والاقتصاد. من لم يدرك استراتيجية وأهمية البترول كغطاء حقيقي للعملات فليعتكف في المكتبة القانونية لجامعة بوسطن وليقرأ متأملا مترويا شهادات الاقتصاديين أمام الكونجرس في حقبة الثمانينيات حول خطورة وإمكانية تنفيذ تهديدات إيران وليبيا آنذاك ببيع البترول بعملات غير الدولار وتأثير ذلك في هيمنة الدولار بحسبه عملة الاحتياط العالمية والآثار الاقتصادية التي ستعقب ذلك على الاقتصاد الأمريكي. عندها سيتبين للمتسائل المستفسر الأسباب الحقيقية والدوافع القوية التي جعلت أوروبا تتجاوز دماءها وثأراتها واختلاف ألسنتها وأديانها وثقافاتها لتكوّن عملة موحدة تكون منجما للذهب بعد أن أفل نجم الذهب ولم يعد ثمن الأثمان.
إن الوحدة النقدية الخليجية إذا أُحسنت إدارتُها اقتصاديا وسياسيا ستحقق عائدا نقديا مجانيا وتمويلا عميقا منخفض التكلفة تتمتع به أي دولة أو تحالف تكون عملاتها إحدى عملات الاحتياط العالمية، وتعتمد ضخامة هذه العائدات وعمق ورخص التمويلات على مدى براعة سياسة التعويم أو إخفاء نسب الربط إلى العملات المرتبط بها في سلة العملات المقترحة.
إن الوحدة النقدية ستعطي السياسة النقدية الأداة الفاعلة الحقيقية للتعامل مع تذبذبات أسعار النفط، فعند ارتفاع أسعار النفط سترتفع قيمة الدينار الخليجي، ما يسهل السيطرة على التضخم الداخلي مع إقبال الأسواق المالية العالمية على شراء الدينار من أجل التحوط والمضاربة والاستثمار، فتتحقق عوائد ضخمة بالإمكان (إذا كانت طفرة الأسعار مؤقتة) الاحتفاظ بها كاحتياطيات تُحلب فوائدها خلال إقبال طفرة النفط وتستخدم لشراء الدينار الخليجي عند إدبار الطفرة.
إن ارتفاع أسعار النفط وعظم استراتيجيته المستقبلية هما غالب، والله أعلم، ما سنراه في المستقبل. قد شاهدنا من قبل كيف يمكن لأسعار النفط أن تصل خلال أشهر، بل أيام، وهذا ما سيكون في المستقبل، وعند حدوثه يجب أن نستغله الاستغلال الأمثل بوجود عملة قد تأسست وأصبح لها كيانها ومصداقيتها، فنكون قد استبقنا الأحداث كما فعلت أمريكا في عقدين من الزمن بعد معاهدة برتن وود ثم انتهزت بعد ذلك الفرصة. وما تفعله أوروبا الآن ليس ببعيد، فهي تؤسس عملتها متربصة للفرصة. الفرصة لنا أقرب وآكد بوجود البترول ومستقبله القادم الذي سيرفع قيمة عملتنا الخليجية الموحدة التي يباع البترول بها، فيتسابق المستثمر والمضارب والمتحوط على اقتنائها وتلجأ دول وشعوب فتتبناها للتعامل بها، فتتحقق لنا بذلك احتياطيات وموجودات نقدية لا حد لها، فنبني بها ما نقدر على بنائه من الإنسان الخليجي ومعداته وأرضه لنتمكن من إيجاد البديل عن البترول إذا غربت شمسه وأفل نجمه، فها هي أمريكا تستغل الدولار الاستغلال الأمثل منذ أكثر من 30 عاما، فما إن تدور الدائرة على الدولار، فتشطب الديون وتضاف الأصفار بجانب الدولار، وعندها لكل حادث حديث.
إن المنافع والمصالح للوحدة النقدية لا تقف عند هذه المنفعة الاقتصادية الاستراتيجية التي ذكرت سابقا بل تتعداها إلى الفخر والشموخ الذي سنجنيه من دولية عملتنا عندما نراها في الفنادق والمصارف والمطارات الأجنبية وعلى شاشات أسواق العملات وأسواق السلع العالمية وهي تحمل أسعار النفط بالعملة الخليجية العربية الإسلامية.
من المنافع التي ستتحقق ـ بإذن الله ـ توفير المرونة لاقتصاداتنا، فتتحمل هذه العملة انخفاض البترول بانخفاض قيمتها بينما تحقق لشعوبها وسكانها الرفاهية المقترنة بارتفاع أسعار البترول عن طريق ارتفاع قيمتها وتكون في الحالين هي دافع العالم للتمسك بها إذا أُديرت إدارة حسنة وكانت التذبذبات في العملة مرنة واعدة بالفائدة.
من المنافع تحفيز تطوير بنية بنكية مالية متقدمة تكون مركزا ماليا عالميا يوفر العمق المالي والبيئة المناسبة لتكون دول الخليج هي دول محور المال والاقتصاد بعيدا عن الاعتماد على النفط.
من المنافع لهذه الوحدة زوال الحدود بين دول الخليج، ففي أمريكا وأوروبا زالت الحدود قبل توحيد العملة، وفي الخليج ستكون الوحدة النقدية هي من ستزيل هذه الحدود.
من المنافع ترويض الفكر العربي والإسلامي على قبول الوحدة وتقديم التنازلات والتضحيات من أجلها. وللمنافع بقية وللمخاطر والتضحيات وقفات أخرى، ولكن يجب علينا ونحن نخوض معركة الوحدة النقدية ألا نغفل أو نستهين بتأثير الأجنبي النفسي على قراراتنا طالما أنه هو المستشار، فبريطانيا لم تنضم إلى اليورو، وكذلك فعلت عُمان.