نشرت وكالات الأنباء خلال العام الماضي 2008 عديدا من الأخبار المثيرة عن القراصنة الجدد في مياه خليج عدن ومياه المحيط الهندي المتاخمة لشواطئ الصومال، الذين استغلوا غياب الدولة وموقع الصومال المميز للسيطرة على أحد أهم شرايين التجارة الدولية، ولقد قُدر ما تم حجزه بنحو 100 سفينة خلال ذلك العام . والملاحظ في هذه القرصنة البحرية Marine Piracy التي ظهرت حديثاً أن الأسلوب المتبع سلمي – غير دموي – مع طلب فدية تتفاوت قيمتها حسب ماهية السفينة ( تجارية – سياحية – وناقلة نفط ... ) وحجم حمولتها مع أخذ جنسية السفينة في الحسبان أثناء التفاوض، كما يلاحظ استخدام القراصنة وسائل اتصالات إلكترونية حديثة في عمليات التفاوض عن بُعد, التي تنتهي في أغلب الأحيان بالإفراج عن السفينة بعد دفع الفدية. وحسبما ورد على لسان مبعوث الأمم المتحدة في الصومال فإن غنائم عمليات القرصنة حتى نهاية العام تزيد على 140 مليون دولار، وهذا ما دعا المجتمع الدولي بجميع أطيافه السياسية عندما استشعر الخطر إلى مواجهة تلك الظاهرة، وإرسال الدول المتضررة الأساطيل البحرية لحماية مصالحها، كما تم تكامل الإجماع الدولي بانعقاد المؤتمر الدولي لمكافحة القرصنة البحرية برعاية الأمم المتحدة في كينيا في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، والاتفاق على تشكيل قوة متعددة الجنسيات مستعدة للقضاء على هذه الظاهرة.
وعلى الرغم من تأكيد المسؤولين الصوماليين الرسميين أن هؤلاء القراصنة من جنود خفر السواحل المنشقين المتعاونين مع بعض الصيادين الذين ينتمون إلى بعض العشائر الصومالية في إقليم بونتلاند الذي يتمتع بشبه حكم ذاتي، إلا أن هذا الموقف العجيب يحتاج إلى وقفة موضوعية تتطلب التحليل لما تحمله من إساءة – غير مقصودة – لدولة عربية إسلامية، خاصة أن التاريخ المدون للقرصنة البحرية لم يسجل أي حادثة لقرصنة بحرية عربية أو إسلامية في وقت كان ميدان القرصنة المعروفة محصوراً في مياه البحر الأبيض المتوسط، وسادت القرصنة فيه خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين. وفي هذه الحقبة السوداء كان من أبرز القراصنة هنري مورجان المعروف بذي اللحية السوداء، ووليم كيد الاسكتلندي، وفرانسيس دريك, الذي منحته إليزابيث الأولى ملكة بريطانيا لقب سير . كما أننا لا يمكن أن نتغافل عن القرصنة البحرية التي تحكمت في مياه البحر الكاريبي وبحر الصين في الفترة نفسها.
وإذا كانت القرصنة البحرية قد انتهت مع بداية القرن التاسع عشر, فقد ظهرت على الساحة الدولية أنواع أخرى من القرصنة مع دخول عصر الفضاء والتقنيات العالية high tech في القرن العشرين الماضي، تمثلت أساسا في القرصنة الجوية Aviation Piracy باختطاف السفن الجوية (الطائرات) إما بغرض الفدية وإما لاعتبارات سياسية، والقرصنة الفكرية Intellectual Piracy باستخدام الوسائل الإلكترونية والاتصالات لنقل الأفكار الثقافية والأبحاث العلمية وغيرها، إضافة إلى ما يشهده العالم من قرصنة اقتصادية Economic Piracy التي تمارس من قبل بعض الدول للهيمنة على مناطق الثروات ومكامن الموارد الطبيعية لدول أخرى (ومنها المياه ) وبما يسمح بفرض توجهاتها الاقتصادية. ولعل من أبرز أمثلة هذه القرصنة ما يتم من قرصنة مائية Water Piracy للسيطرة على مواردنا المائية العربية والحيلولة دون الاستفادة منها في أرضنا العربية. وفي هذا السياق يمكن رصد أربع حالات للقرصنة المائية حدثت في العقود الماضية لأنهار تجري في الأرض العربية:
الحالة الأولى : قرصنة مياه نهر الأردن ومنابعه، حيث بدأت الحلقة الأولى من مسلسل القرصنة بعد قيام دولة إسرائيل بتجفيف بحيرة الحولة وتحويل نهر الأردن إلى صحراء النقب عام 1953 وتوزيع مياه النهر في إطار مشروع المياه القطري، وكانت الحلقة الثانية بعد العدوان الإسرائيلي عام 1967 واحتلال الضفة الغربية ومنابع النهر في مرتفعات الجولان، والتحكم في نهر اليرموك وتحويله إلى بحيرة طبرية، ومع استمرار إسرائيل في احتلال الضفة والمرتفعات حتى بعد نصر تشرين الأول (أكتوبر) 1973م دخلت إسرائيل طرفاً أساسياً في تحديد مسار المسلسل, التي ما زالت حلقاته لم تنته بعد وتنتظر الحلقة الأخيرة.
الحالة الثانية: قرصنة مياه نهري الفرات ودجلة، وهي نموذج لنوع من القرصنة المائية المقننة، حيث ترى تركيا دولة المنبع للحوض المائي أن النهرين الفرات ودجلة ليسا نهرين دوليين من الناحية القانونية، لأن أيا منهما لا يصلح للملاحة، وحسب إعلان هلسنكي الصادر عن رابطة القانون الدولية، كما أن الاتفاقيات المبرمة مع دولتي المصب – سورية والعراق – تفتقد صفة الإلزام ولا تترتب عليها أي عقوبات قانونية. ومن ثم فإنها – أي تركيا – لها كل الحق في التحكم في المنابع واستخدام النهرين دون أخذ موافقة مسبقة من دولتي المصب، وبناء عليه فقد قامت من جانبها بتنفيذ أكبر مشروع للتنمية المائية في جنوب الأناضول والمعروف بمشروع الجاب GAP, وهو مخطط لتخزين المياه وتوليد الكهرباء من خلال تنفيذ مجموعة من السدود لعل من أهمها سد أتاتورك العملاق الذي تصل سعته التخزينية نحو 50 مليار متر مكعب. وفي ظل عدم الاتفاق فإن مشروع الجاب سيؤدي عند اكتماله إلى تغيير شامل للأوضاع المائية لدول الحوض الثلاث.
الحالة الثالثة: قرصنة مياه نهر النيل، فالمعلوم للجميع أن مياه النيل مطمع لعديد من دول المنبع التسع سواء في منطقة البحيرات الاستوائية أو في مرتفعات إثيوبيا، خاصة أن هذه الدول لا ترى الاعتراف بالاتفاقيات التي أبرمت إبان الحكم الاستعماري لتقاسم مياه النهر ولا حتى الاعتراف باتفاقية 1959 بين مصر والسودان التي عززت مبدأ الحقوق المكتسبة لدول النهر الدولي. وقامت دول المنبع بعد الاستقلال – ومن جانب واحد – بإلغاء الاتفاقيات واعتبرتها باطلة بل شرع بعض من هذه الدول (إثيوبيا كمثال) في تنفيذ مشاريعها الهيدروليكية وبمساندة خارجية على منابع النهر دون الرجوع إلى دول المصب (مصر والسودان), ما يعد نوعاً غير مشروع من القرصنة المائية التي تتطلب المراجعة.
الحالة الرابعة : قرصنة مياه شط العرب، وهي قرصنة مائية ذات جذور تاريخية ممتدة لعشرات السنين من جراء احتلال إيران بعض الجزر في شط العرب ومحاولتها الدائمة ترسيم الحدود لمصلحتها. وعلى الرغم من وجود اتفاقية هشة موقعة بين إيران والعراق عام 1975 والمعروفة باتفاقية خط التلعة, فإنه لم يتم تفعيلها وما زال الموقف كما هو، وأصبح من المستحيل ترسيم الحدود وإعادة الجزر لضمان الملاحة في شط العرب.
من الملاحظ أن صور القرصنة المائية في الحالات الأربع تتم من قبل دول غير عربية، ومع ذلك فإن الأرض العربية تشهد نوعا من القرصنة المائية – غير المعلنة – فيما بينها يمكن تقييمه بكونه نزاعا مائيا عربيا /عربيا لا يرقى إلى درجة الصراع حول الموارد المائية الجوفية المشتركة, ومن الأمثلة الواضحة لذلك استغلال طبقة الحجر الرملي المشتركة بين مصر وليبيا في مشروع النهر الصناعي العظيم في ليبيا، واستغلال طبقة العرق الشرقي المشتركة بين الجزائر وتونس في جنوب الأطلسي من قبل تونس، إضافة إلى ما يتم حالياً من استغلال الطبقات الجوفية المشتركة في شرق وشمال الجزيرة العربية من قبل دول مجلس التعاون وما حولها.
وإذا كان هناك اتفاق على أن ما يجري من قرصنة مائية من الدول غير العربية له أبعاد جيوسياسية وتأثير مباشر في الموارد المائية السطحية المتجددة, فإن النظرة العلمية تقتضي أن ينظر إلى القرصنة المائية من الدول غير العربية بكونها ورما خبيثا يصعب اقتلاعه, فيما ينظر إلى النزاعات على الطبقات الجوفية المشتركة بين الدول العربية بكونها ورما حميدا يمكن معالجته إذا ما توافرت النيات الحسنة والشفافية في العرض والالتزام بالمبادئ الأخلاقية لاستخدام المياه.